مقالات

حصاد الدم!.. بقلم: المحامي فهمي كرامي

كلما أجلَسْتُ ذاكرتي على مقاعد الدراسة زمن الطفولة، انتصب أمامي أستاذ اللغة العربية الذي كان يردد على مسامعنا قصصًا ومقاطع أدبية، تروي أحداثًا أو أمثالًا عن العطاء، وعن انتقال ثمره إلى الأجيال عبر دورة الأيام. وسرعانَ ما تتشكل أمامي حينذاك، تلك الرواية التي تملكت حواسنا وأفئدتَنا قبل العقول، تعاطفاً وتقديراً، وانحناء أمام حكمة ذاك الشيخ، الذي سأله شاب لماذا يزرع نخلة يافعة العود، وهو يعلم أنها لن تثمر قبل انقضاء ما تبقى له من فسحة عمر، فأجابه بكلمات موجزة بليغة: زرعوا فأكلنا ونزرع فيأكلون…

هكذا بجملةٍ بسيطة، جسد ذلك الشيخُ آثار مرور عجلةِ الزمن على دروب أفعال الناس، ومآثر بعضهم تجاه بعض. وبيّن لنا، نحن الصغارَ يومذاك، أن المرءَ قد يفنى جسده عندما يسترد البارئ هبته فيه، أما أعماله وإنجازاتُه وأفكاره وعطاؤه وحتى أخطاؤه، فتستمر في الأجيال القادمة شهادةً على تطور المجتمعات.
ولهذا كان الشيخ يزرع شجرة مثمرة نافعة معمرة، قد تعيش لمئتي عام، مع علمه أنها لا تثمر إلا بعد حوالي خمس سنوات ولا تبلغ ذروة عطائها إلا بعد عشر. فهو أراد أن يترك في الأرض خيراً يستفاد منه، وفي أدب الناس حكمةً وفي ذاكرتهم عبرة نتعلم منها، أن فعل الخير أساس لتقدم الحياة ونهضة الشعوب وتراكم المعارف.
أغادر مركب الذكريات، وأترحم على أستاذنا ناقل الحكم وملقنها وعلى ذلك الشيخ الجليل الذي خلده القول الحكيم في أعلى سلم الأيام. لأعود إلى واقعنا، فأرى الدم العربي يسفك أنهاراً، وأجساد أهلنا وبناتنا ونسائنا وشبابنا وبنينا تختلط بتراب الأرض، فتتحد معه وتتفاعل بمعادلة كيمائية تحفزها الكرامة، وينتج عنها صمود صلب، متأصل يدحر آلات القتل الصهيونية ويعري وحشية شعب، متعطش للسلطة والسيطرة حتى ولو على أشلاء الأطفال.
نعم الجميع يتألم، الجميع غاضب، الجميع يذرف الدمع على مجازر أصبحت عادة يومية، مشرعنة دوليًّا، ومغطاة بصمت عربي مخزٍ. لكنها في النهاية مشاعر آنية يخفف منها أو يبددها مرور الوقت، حتى يسقطها النسيان من الذاكرة. نحن نبكي على جثث تلقى أمامنا اليوم، والقتل عادة تأصلت في البشر منذ القديم، ونحن سكتنا عنها بل شاركنا فيها بالصمت:
منذ أن قررنا أن قضية فلسطين هي قضية الفلسطينيين والفلسطينيات وشأنهم الداخلي وحدهم.
ومنذ أن سمحنا لأوروبا أن تطهر يديها من محرقة هتلر بنار جثث وكرامة أهل فلسطين،
ومنذ أن انبطحنا للأمريكي، وسمحنا له، لنحظى برضاه ونسمو بحمايته، أن يكرر في بناء إسرائيل تجربته الأولى التي بنى بها أقوى دولة في العالم على إبادة أهل الأرض من سكان أمريكا الأصليين.
ومنذ أن منحنا السفاح نتنياهو مجاناً اتفاقات تطبيع وهو يتلذذ بقضم الأرض الفلسطينية وامتصاص دماء أهلها.
ومنذ أن عملنا على تكريس تفككنا، وخلعنا جلبابنا العربي، وأصبحنا نبحث في صفحات التاريخ عن أنساب تعيدنا قبائل متناحرة.
ما نراه اليوم هو الحصاد، حصاد ما زرعته الشعوب العربية وحكامها، منذ حرب 1973 حتى يومنا هذا. وعندما يحين الحصاد لا بد من نزع ما في الأرض؛ فإذا كان ثمراً طيباً عمّ خيره، أو كان سمًّا تفشى في الأجسام يبيدها، ولا بكاء على ما جنينا فهذا زرعناه بملء ارادتنا،
طوفان الأقصى طلب نجاة من زرع قاتل، غرسه حكام العرب وَسَقَتْه الشعوب العربية بتخاذلها وخنوعها. هو وقفة عز وكرامة لشعب أبى الموت ورفض الاستسلام.
هو صرخة بوجه زعماء عرب تعمدوا بدم أطفال فلسطين ونسائها وشيبها، رغم استغاثتهم بهم، وجل ما يفعلونه الاستنكار والبكاء والشجب وإرسال الأكفان إلى الضفة والقطاع، والسفراء إلى تل أبيب. حتى إنهم لم يقفلوا سفارة المجرمين، ولم يطردوا سفراء القتلة، وما زالت طائرات العدو الصهيوني تقتل الفلسطينيين واللبنانيين والسوريين بغاز العرب ونفطهم.
ما أخشاه، أن يتوقف القتل، وتتوقف التغطية الإعلامية، ويعود كل إلى موقعه فنعود إلى تخاذلنا وتشرذمنا. ويعود زعماء العرب إلى بيع الأرض والمقايضة على القضية والسعي إلى إزالة آثار الطوفان.
ما نحتاجه ليس الدموع وإن كانت تغسل القلوب وتنير العقول، ما نحتاجه عقيدة وإيمان، وعمل سياسي منظم، ينثر الزرع الطيب في أرضنا، فيعيد الإيمان بالقضية الأم إلى قلوب شبابنا، والرؤية السياسية الإصلاحية إلى عقولهم، والعمل الحزبي المنظم إلى صلب مجتمعاتنا.
أنا أعلم أنه مسار شاق طويل، ولكن تذكروا: زرعوا فأكلنا نزرع فيأكلون
لنقرر أي زرع نترك لأولادنا

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى